لما
سارت قوافلُ الركبان، إلى أرض السودان، يتوافدون إليها زرافات ووحدانا، وأصبحنا بنعمةالله
إخوانا، سمعت أن معاقرة الوطن، تعقر همَّة الفَطن، ثم تأهَّبت لرحلة مجراها فوق السحاب،
مع رفقاء من الطلاب، وآخرين من الركاب.
وفي
ليل أرْخَى سُدول ظلامه، سرينا بمسلك من غمامه، من بين سُحُب بيض ركام، على متن دابة
تطير كالحمام، تعلو مرة وتسفل تارة في ممرات الفضاء، كأنها طير يخفق جناحيه في جوّ
السماء، حتى هبطت بنا الطائرة من فوق الغُيوم ، ونزلت في المطار الدولي بالخرطوم ،
وما لقينا من سفرنا نَصَبا ، ولم نُمض فيه حُقبا.
وكان
الليل إذا ذاك داج، والمدينة ذات وهاج، وبعد وعثاء السَّفر، أطلقنا فيها سراح النظر،
فإذا هي أزهى من الطاووس، ولها كل جمالِ مَا في القاموس، وكنت أحِنُّ لرؤية النيل،
ومنظره الرائع الجميل، حنين الأم لولدها، الذي هو فلذة كبدها، لأن النيل اختاره الأنهار
أميرا، وجعلَ البحارَ له وزيرا، ووصف به النبي عليه الصلاة والسلام، بأنه من دار السلام
، فزرتُ شِقَّه النيل الأزرق، في مشهد رونق ، حتى انتهينا إلى سدّ الرُّصَيْرِص، وكنت
على مشاهدته أحرص، فتذكَّرتُ به سدّ مأرب ، المشهور في أخبار العرب ، قبل سيل العرم
، واجتياحه بالسد الأعظم .
لما
شهدت ضفة النيل، وقت انقِضَاء الأصيل، والشمس آذنت بالمغيب، والشَّفَق بدا من قريب
، وجدته بأسمى معاني الجمال، ما لم يخطر في البال ، وأنشدت :
النــــــــــيل
نهر لا كجــــــــدول أرضنا لــــــــكنه
عسل جرى كالأبـــــــحر
عذب
فـــــــرات ســـــــــــائغ وشـــــــرابه
يتــــــنافس الأقـــــــــوام بالمســـــــتكثر
قد
تشرب السودان أصفى ماءه والأرض تزهر عنــــــده
بالأخضر
وتلمــــــــــعت
ألــــــــوان أزهــــــــــــار بها والشمس
تنظر من خدور أحمر
وهنا
تعـــــــــــــانقك النـــــسيم بلطفة
من ضــــــــفتيه تقر عين المبـــــــصر
وفي
يوم من الأيام ، بينما كنت أشاهد مسابقة في سِحْرِ الكلام ، لأجني من ثمارها الدانية
، انبرت فيها الشاعرة السودانية ، تذكَّرتُ الخنساء في شعرها، ورثائها لصخرها، فقالت
:
أبى
الشـــــــعر إلأ أن يظـــــــل ســـــــــكوبا فيحـــــــيي نفوساً أجــــــدبت وقـلوبا
ويجلو
صدى الأيام عن روحنا هوىً ويـــــــرجع
مجــــــــــداً تالــــــــداً ومهـــــيبا
ولما
دعا الـــــــــداعي إلي الســــبق زمرةً
أصابوا من الفيض البديع سُيــــوبا
تهيب
قــــــــلبٌ باع للـــــــــشعر عُـــــــــمره وكم شــــــــق في بحر الكـــــلام دُروبا
فخطر
فجأة في بالي ، أن نلتُ أملا من آمالي ، وحضرتُ ناديا من أندية الأدباء، فيه بُلَغَاء
الخطباء، وفحول الشعراء، في هذا العصر الذي قد بارت قيمةُ الأدب، في جميع بلدان العرب،
وغاض ماؤه من ينابيعه و آباره، وأمحلت مجاريه وأنهاره ، فولجت لج البحر المنشود، من
الأدب المفقود، عبر شاطئه المطل على السودان، والتي لا يسبح فيها إلا آل سحبان،[1]
فظننت أقطار السودان، عالم الأدب في هذا الزمان .
إنها
أرض السودان ، بلدة طيبة لا كالبلدان ، تجري من تحتها الأنهار ، وتفوح منها الأزهار،
النابتة على ضفاف نهر النيل، الجاري كعين السلسبيل، ومنظره يوحي إليك من جمالها ، ويبين
لك مدى رغد حالها، دون استخراج كنوزها وأثقالها، وبعد برهة من الزمن، – والتعرُّفُ
على أحوال الوطن؛- علمتُ أن أهلها طيبون ، يحبون الغرباء ويكرمون، ينادونك بكلمة زول،
ويطعمونك بطعام الفول، وخبز يسمون بالعيش، لا عيشَ عندهم بلا عيش، فإن غَلا كأنْ مسَّهم
الطيش، وثاروا على الشرطة والجيش، يستقبلون الضيف، ويمنعونه من كل حيف، فالغريب عندهم
قريب ، وحميم صديق حبيب ، وكنتُ أقرب إليهم كقرب اللسان بالأسنان ، ونتبادل بمفاخر
البلدان ، فواحد منهم يفتخر ، ويقول : قال هتلر : أعطوني جنديا سودانيا، وسلاحا ألمانيا،
وسوف تمشي أوروبا على ركبتها ، وتزحف بأناملها بعد نكبتها ، فقلت لهم : يا سلام !!
يا خير الأقوام ، استحَقْتُم الوسام بالإقدام ، وهكذا غاية المرام ، وتارة يسألونني
عن دخيلة أمري ، وأجيبهم بأبيات من شعري :
أناالمختار
لي دار * وتلك الدار تذكار
بصومال
ولي فيها * من الأخدان أبرار
ولن
تصفو لي العيش * لما بالقدس أكدار
فقالو
لي: إن كنت مُختارا ، ولسْتَ مُحتارا ، أنشِدْ لنا أشعارا ، وأرسل الأبيات علينا مدرارًا
، فقلت :
ألا
ســائـلـي عــنـي فـلـسـت كـشـاعـر
يـــهــيــم
لِــــغَـــيٍ كــــــل واد وحـــائـــر2
وأنـضـي
بـركـب الـعـلم عـيـسي مـفارقا
بــقـومـي
وصــومـالـي و أرض الـعـشـائر
لأغــــرف
مــــن بــحــر الـعـلـوم وقـاعـهـا
أغــــوص
بــــه بـحـثـا نـفـيـس الـجـواهـر
أرود
واسـتـسـقـي إلــــى كـــل مـنـهـل
وفــــي
بــيــدوا مــسـقـاي دار الـبـشـائر
ولـــســت
بـــمــا دون الــنـجـوم بــقـانـع
ولــيـسـت
مــقــالات الــعـذول بـضـائـري
ولـــي
ذكـريـات فــي فـلـسطين قـدسـنا
وفي
الشام شامي لم تزل في خواطري
وشـيـشـان
لــن أنـسـى وأفـغـان أرضـنـا
وتـــلــك
الـــعــراق تـشـتـكـي بـالـمـنـابر
سأمضي
بهذاالدرب ما عشت في الوري
وأدعـــو
الـثـبـات مـــن إلــهـي ونــاصـري
ويسألونني
عن بلد يبتدأ بالألف واللام ، وينتهي بالألف واللام ، وما بينهما ركن من أركان الإسلام،
وماقصدهم إلا بلاد (الصومال)، فأخبرت لهم صدق الأحوال، وما بعد الآلام من الآمال، فسرعان
ما هتفت شوقا عجولا في الفؤاد ، وشدوت كإنشاد الحادي ، وقلت:
سـلام
عـلى أرضـي وأهلي ومربعي
نبا
في فؤادي الشوق شوق المهاجر
نـأت
مـقدشو عـني وشـطت دويرتي
وزايــلـت
أخــدانـي فـــراق الـمـسافر
تـأهـبـت
يــوم الـبـين أحـنـو لـبـلدتي
وأجـفـلـت
إجــفـال الـغـيوم الـسـوائر
بــطــيــارة
لا أيـــــن فــيــهـا كــأنــهـا
سـفـيـنة
نــوح فــي الـبـحار الـزواخـر
وســارت
نـجاء فـي الـفضاء بـدهشة
كـصـاروخ
روســي عـلـى الـغيم عـابر
ولما
لبثت فيها برهة ، أجول في أرجائها نزهة ، ليُسْكِن الألمَ والشَّوق، ويحلو لي الذوق
، قالو لي: كُلِ الفُولَ بالعيش، تفُز بلذَّة العيش، وخِلْتُ أن لا عيش بلا عيش
!!!
_______________ هوامش __________________
سحبان
: هو سحبان ابن وائل ، أفصح العرب ويضرب له المثل في الفصاحة
إقتباسا بالمعنى من قوله تعالى (والشعراء يتبعهم الغاوون
* ألم تر أنهم في كل واد يهيمون) والغي كقوله تعالى (قد تبين الرشد من الغي ) .
بقلم : مختار الحدري